في الحروب، إذا اردت أن تربح ... عليك أن تفهم أن النصر لا تحققه طلقات الرصاص ودانات المدفعية وصواريخ وقذائف الطائرات فحسب، ولا حتى القادة العسكريين وتكتيكاتهم وخططهم، هناك من هم خارج هذه الدائرة تماما، لكن دورهم في حسم المعارك قد يزيد عن من يرتدون زي القتال ويحاربون بالفعل.
من بين هؤلاء "الإعلاميين"، والفئة الذهبية منهم في الحروب من تملك لغة العدو وتقدر علي مخاطبته، وإذا أردنا الحديث عن جنرال للإذاعة المصرية في فترة ما بين 1967 و أكتوبر 1973 فلن نجد للكبير أحمد الحملي رئيس البرنامج العبري في الإذاعة وقتها مثيلا. في وقت لم يكن حتى التليفزيون قد اتسع انتشاره، ولا يزال الناس يسمعون للاذاعة كمصدر أول لمعلوماتهم.
قبل النكسة:
يحكي المذيع الكبير أحمد الحملي ذكريات ما قبل النكسة عن أوضاع الاذاعة وقتها فيقول: ((قبل عام 1967 لم يكن لدينا خطة محددة للرسالة الإعلامية المطلوب توجيهها إلي إسرائيل، وتغلبت الشعارات والهتافات علي برامج الإذاعة، وساد هذا المنهج حتى بعد هزيمة يونيو.
لكن عندما بدأنا نستعد للمعركة، اختلفت الصورة وأصبحت الاذاعة أحد الأسلحة الثقيلة التي نقصف بها إسرائيل علي مدى 14 ساعة من الأرسال المكثف)).
أسرة باروخ:
كان ذلك هو الاسم الذي اختاره أحمد الحملي لبرنامجه الذي كان يعد أهم وأخطر البرامج التي تقدمها الإذاعة العبرية وقتها، كان الهدف من البرنامج هو "خلق إيحاء لدي الإسرائيليين أنهم مخترقون، وأن مصر علي إطلاع كامل بكامل أسرارهم"... كان الحملي يعتمد كذلك في برنامجه علي بعض الأسرى من أسرى إسرائيل في حرب الاستنزاف والذين رتبت له القوات المسلحة المصرية لقاءات معهم واذاعها هو عبر البرنامج.
كان الحملي فنانا إذاعيا قديرا، إذ أهتم بالتسجيل وقتها مع الأسرى الذين كانوا يبدون الشعور بالمرارة والخوف علي زوجاتهم وأطفالهم ونقمتهم علي الحروب، كان لذلك ألما شديدا داخل إسرائيل حتى أن أسر بعض هؤلاء الأسرى ومعهم جماعات رافضة للحرب داخل إسرائيل سجلوا البرنامج وتمت إذاعته في مكبرات صوت خلال مظاهرات قوية في تل أبيب نفسها طالبت موشية ديان بوقف الحرب.
ويمكننا تخيل حجم هذا التأثير علي إسرائيل عندما نعلم أن ديان وزير الدفاع الإسرائيلي حينها اضطر لإذاعة بيان طمأن فيه شعبه وقام كذلك بإرسال مجموعة من المراسلين العسكريين علي الجبهة لتقديم معلومات مضادة لما كان يقدمه الحملي وزملائه في البرنامج العبري.
الهجمة المضادة:
كانت الهجمة المضادة من الحملي ومن معه في الإذاعة العبرية بناء علي معلومات قامت بتوفيرها لهم المخابرات المصرية بخصوص تحركات وتنقلات كتائب الجيش الإسرائيلي وبعض من قواته داخل الجبهة المصرية في سيناء، فكان الحملي يذيع في برنامجه رسائل إلي أهالي وأصدقاء جنود وضباط هذه الكتائب بتعديل عنوان المراسلات إلي الموقع الجديد الذي تحركت إليه الكتيبة.
جنود إسرائيليين في حرب الاستنزاف
أحدث ذلك فزع شديد داخل الكتائب الإسرائيلية التي كانت تنتقل من موقع لآخر لإحساس أفرادها أنهم مكشوفين أمام المصريين، وفزع مماثل في نفوس عائلاتهم الذين يعرفون بتحركات أبنائهم من المصريين أنفسهم.
لقاءات الأسرى:
نتيجة للمعارك التي وقعت في حرب أكتوبر 1973 تبدلت الصورة عما حدث في الحروب السابقة مع إسرائيل، الآن نأسر الإسرائيليين فرادي وبالعشرات دفعة واحدة، تجمع القوات المسلحة هؤلاء الأسرى وتعاملهم وفقا للاتفاقيات الدولية ووفقا لأعراف الحروب ووفقا لحضارة تستوعب سبعة آلاف عام، عكس ما فعله هؤلاء أنفسهم قبل ست سنوات من ذلك التاريخ.
وكان لأحمد الحملي مهمة أخرى وقتها، وهي اللقاء مع عدد من هؤلاء الأسرى بإشراف المخابرات الحربية، ولك أن تتخيل عزيزي القارئ وقع هذه التصريحات علي الشارع الإسرائيلي الذي لم يعتاد أبدا سماع جنوده وهم أسرى لدي العرب، وكيف أثر الحملي علي الشارع الإسرائيلي بل والجندي الإسرائيلي حينها.
ومن الوسائل المميزة في ضغط أعصاب الشارع والجيش الإسرائيلي وقتها استخدام أسلوب جدول المواعيد لعرض الحوارات مع الأسري، فعلي سبيل المثال كان البث يبدأ بتحديد أن الأسير الذي اسمه ... من الوحدة ... سيتم إذاعة تسجيل معه في الساعة ...، وهكذا وبالتالي ينتظره جميع من يعرفونه بخلاف باقي المستمعين.
تجربة مميزة:
مما يحسب لشبكة الإذاعات الموجهة المصرية حاليا أنها وبالتزامن مع احتفالات نصر أكتوبر من كل عام تعيد إذاعة هذه التسجيلات عبر بث البرنامج العبري، مما يمكن المستمع من عيش هذه التجربة المميزة التي تنقله إلي أجواء الحرب.
أنت كاذب يا هيرتزوج:
من أبرز الأحداث في الحرب هو تكذيب الحملي لحاييم هيرتزوج السياسي البارز وقتها والذي سيصبح رئيس إسرائيل في التسعينات، عندما كذب هيرتزوج قيام مصر بأسر "عساف ياجوري" فقام أحمد الحملي فورا بإجراء حوار مع ياجوري، ختمه برسالة إلي هيرتزوج قال له فيها : ((جرب الاتصال بمنزل ياجوري .. هذا هو رقم الهاتف في منزله)) وأخبره بعنوان المنزل وأسم زوجته.
وهكذا،، ومن حكاية قائد مدفعية الاذاعة فيمكننا القول أنه من المؤكد أننا كمصريين تعلمنا فن الانتصار، وتعلمنا كيف نحققه ليس فقط في ساحات المعركة بل في كل ساحة ومكان له صلة بها، فسلاما علي أحمد الحملي ومن كان معه.
---المصادر:
*مجلة الأهرام العربي، العدد التذكاري بمناسبة مرور 25 سنة علي حرب أكتوبر، أكتوبر 1998، صفحة 119، حاوره هالة حسين.
*المصري اليوم:
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1019206
*الوطن نيوز:
https://www.elwatannews.com/news/details/427782
*مصراوي:
Content created and supplied by: محمدعلام14 (via Opera News )
تعليقات