كان يومًا ثقيلًا، بالنظر إلى صور المُحبّين تملأ مواقع التواصل الإجتماعي والتي من المفترض أن تبعث ولو مؤقتًا الضحكات إلى وجوهنا، إلا أنّ سذاجة المشاعر التي تبعثها الصور كانت أكثر من حقيقة الشعور، فلا عيدًا للحبّ ولا ورودًا ولا يومًا، إنما الحبُّ مكتملًا بذاته لا يعبر عنه إلا نفسه ولا ينوب عنه إلاه..
وفي ساعةٍ، تحول أحمر الورود من حبٍّ إلى نعيٍ، وصناديق الهدايا تحولت صندوقًا خشبيًا كبيرًا حمل داخله الهدية، هديّة رضوى، في يومٍ اعتُبِرَ يوم الحبّ أُهدِي مُريد إلى رضوى، حتى ولو أن حكايات رضوى ومريد لم تؤمن يومًا بعيد الحبّ، فأي يومٍ في حياتهما يُطلِقان عليه عيدًا وقد كان الرجل يقول حين تذهب ضحكتها بعض الشيء ويحتل ملامحها تكشيرة " عودي يا ضحكتها عودي"، كيف يمكن لثُنائيٍّ لم يفترقا يومًا في قلبيْهما أو قلوب القرّاء وصفحات الكتب وأبيات القصائد أن يختزلا حبّهما في يومٍ واحد، كيف ولم نعرف رضوى إلا من مريد ولا مريد إلا من رضوى!.
كان مريد الحلقة الأخيرة من النضال، رحل محمود درويش، ورحم الله ناجي العليّ، حتى غسان كنفاني ذهب قبل أن يطوّق معصم أمّي بخاتم أبي، وتبقّى مريد، كنتُ كلّما قرأت له جديدًا تذكّرت قوله" لم أكن ذات يوم مغرمًا بالجدال النظري حول من له الحق في فلسطين، فنحن لم نخسر فلسطين في مباراة للمنطق! لقد خسرناها بالإكراه و بالقوة! " ولا أرى في كتاباته إلا دمًا فلسطينيًّا خالصًا يشقّ جسده ينابيعًا تُلطّف عليه حرّ المنفى.
أتذكرني للمرة الأولى أقرأ له وكنتُ قبلًا أسمع به وبِرضواه، فتفاجئني دقّة وصفه وصدق شعوره، لقد قرأت " رأيتُ رامَ الله" وكأنني أتجول في شوارعها، أرى المُشاة ولا يروْني، شاهدةً على الأحداثِ أمام قاضٍ وددتُ لو كان موجودًا فأخبره، وددتُ لو يرى العالمُ فلسطين كما يراها مريد، لو أنّ أمثال مريد كانوا القادة حقًا، لو أن لِمريد حقّ السكون، وأقصد بالسكون هنا سكونه إلى حضن رضوى وحضن وطنه.
كنت أقرأ لمريد وأتساءل: أيُّ وطنٍ هذا الذي يُبعِدُ مريد ويُبقي على الأوغادِ ومعدومي الهدف، وأتساءل مرة أخرى لِمَ نُفيَ مريد!؟ أيُعاقب المرءُ على انتمائه!، أيُنفى المرء لكونه صاحب قضيّةٍ!، لكراهته للظلم!؟، أتساءل لو كانت غربة مريد لقضيّته فكأننا نُرفض القضيّة، أي جيلٍ هذا الذي يُنشّأُ على غياب القضيّة ونفي أصحابها!.
منذ ستّ سنواتٍ غادرت رضوى، غادرت بجسدِها وبقيَت كلماتها على الصفحات تخبرنا أنها كانت هنا، بقيت كلماتها بقلوبنا، إنما بقيَت رضوى بحبّها في قلبِ مريد، بقيَت على صفحاته، لم يتقبّل مريد طوال ستّ سنوات وفاتها وقد كانت هي موطنه في غربته فشعر للمرة الأولى أنه غريب، عاد إلى المنزلِ ولم يخلُ من أنفاس رضوى وحركتها ووجودها، لم تذهب رضوى يومًا من منزل مريد ولا من قلبه.
كان رحيل مريد حزينًا، بغضّ النظر عن فكرة الرحيل ذاتها إنما لِأن من حملوا جسده لم يحملوا قضيّته، ساروا في جنازته ولم يسيروا في طريقه، ويحزنني أن نبوءته قد تحققّت وقد دوّن قلمه يومًا "أنا أكبر من إسرائيل بأربع سنوات، والمؤكد أنني سأموت قبل تحرير بلادي من الإحتلال الإسرائيلي، عمري الذي عشت معظمه في المنافي تركني محملًا بغربة لا شفاء منها، وذاكرة لا يمكن أن يوقفها شيء." يؤسفني أنه غادر دون أن تتحرر فلسطين، يؤسفني أنه غادر دون أن يتحرر من غربته.
في مقالٍ واحدٍ لا يمكنُ لأيّ متحدّثٍ بالقلمِ أن يوفي مريد حقّه، الأمر بحاجة إلى عمرٍ من الكتابة ليستوعب القلمُ والقارئ كم كان هذا الرجل معجزةً أهملها الزمن وهمّشها القادة، وأفنتها الغربة، فرحم الله مريد، رحم الله رضوى، رحم الله النضال فقد ذهب أخرُ حلقةٍ وانتهى عهدُ الرجال.
رحل مريد، رحل في الغربة.
_بسمة عبد الفتاح أحمد.
Content created and supplied by: bassmaabdo94 (via Opera News )
تعليقات