فى ذلك اليوم من شهر أكتوبر تلقى الدكتور عبد الحميد آخر إنذار من عمله، والذى كان ينص على كلمات باهتة لم يفهم منها شيئًا سوى التهديد المبطن بالفصل النهائى ما لم يفسر سبب غيابه المتكرر، أغلق صندوقه البريدى، واتجه إلى مدخل العمارة التى يقطن بها بخطوات وئيدة، لم يشعر بالحزن أو السعادة، فرغم شعوره بالسأم من عمله الروتينى، إلا أنه يتحمله من أجل زوجته وتجنب شكواها المتكررة من حبه الشديد للكسل، والإسترخاء على الأريكة أمام التلفاز لساعات دون كلل أوملل.
أطل عبد الحميد داخل حجرة النوم ليرى إن كانت نورا-زوجته-مستيقظة أم مازالت نائمة، وحينما وجدها مستغرقة فى النوم حاول أن يستدير إلى الخلف لكنه تجمد للحظات، فقد ساد ظلام تام بالمكان، لم يعد باستطاعته رؤية أى شيء، حاول الحفاظ على توازنه، أغلق عينيه لثوانٍ، ثم قام بفتحهما بسرعة خاطفة، ليجد نفسه متعلقًا بذراع صديقه عزيز يشير بذراع ملولة إلى سيارة أجرة يذهب به إلى مكان ما، ترامى وهج مصابيح الشارع إلى السيارة، أسند عبد الحميد رأسه على كتف عزيز وبقيا صامتين؛ حتى توقفت السيارة أمام بناية ضخمة، إستقلا المصعد، فُتح باب الشقة ليريا وجوه كثيرة بالداخل تنتظر وصولهما على أحرمن الجمر، ارتفعت الضحكات والتى انقطعت بولوجهما مدخل البيت، الوقت يحث خطاه على وقع إيقاع ذكريات الأصدقاء المشتركة، والتى كانت وقتها تُوصف بالمريعة، أما الآن فهى عبارة عن نكات هزلية، ارتفع صوت عبد الحميد ليُعلن تبرمه بإنقطاع النور المباغت لثانى مرة، لكن هذه المرة لم يطل الأمركثيرًا، فقد هاجمه الضوء فجأة، عدل قبعته إلى أسفل لتغطى أذنيه، فشعوره بالبرد الداخلى كان أشد من البرد الخارجىّ، تجول عبر المنزل كله، من غرفة إلى أخرى، بالكاد يتذكر وجوه ساكنيها، أما لماذا تراقبه عيونهم بحيطة وحذر، فهذا سؤال تجاهل الإجابة عنه تمامًا، سيطر عليه مزاج عدوانى، بدأ يخبط على الجدران بقوة، وحينما أدرك وهنه ترامى على الكرسى كجثة، تنتظر من يُغمض عينيها.
بعد وصلة الظلام الثالثة والرابعة والتى تنتهى دائمًا بمشهد تتباين أحداثه، لم يعد يهم عبد الحميد أن يقوم بالشكوى من ذلك، زوجته تجلس أمامه، متأنقة على غير العادة، بجانبها تلك الشابة التى لا يدرك على وجه الدقة هويتها، إلا أنها تبدو كصاحبة بيت، وهو مجرد ضيف عندها، ترمقه زوجته بنظرات هادئة، تُعطيه الجرائد التى يحب تصفحها، قام بقراءتها مشتتا، متجاهلًا تأنيب زوجته لتلك الشابة، بل ذُهل حينما نطقت بلفظ فظ للغاية، وحينما وجد زوجته ستُغادر المكان حاول أن يستجديها لتأخذه من هنا، نظرت إليه سريعًا، ثم أشاحت بنظرها ورحلت.
هذه المرة إستمر الظلام لفترات أطول من سابقيها، وربما قد إختلطت عليه الأحداث التى رآها، لكنه على وجه العموم كان يشعر أنه البطل، بالذات حينما وجد نفسه بعد مروره بظلمة شديدة الحلكة أمام فتاة رائعة الجمال، كانا يقفان بباحة واسعة، ولم يبالى أنها أشعلت سيجارة أمامه، أو يهتم بأنها تنفث دخانها بوجهه، تتأمله بنظرات جانبية، لكنها لا تخلو من إنبهار بشخصه، وحينما غادرته، عاوده مرة أخرى شعوره بالبرد القارس، وإجتاحته رغبة جارفة للوقوف ثانية بالقرب منها، وبالفعل تحركت قدماه للأمام، لكنه فقد توازنه على حين غرة، ركع علي يديه وركبتيه، شعر أن روحه تنسحب على الأرض أمامه، خبا حماسه لرؤية فتاته الجميلة وإستسلم لظلامه مرة أخرى.
ممددًا على السرير هذه المرة، تتأمله وجوه كثيرة، تختلط أصواتهم، بالكاد يفهم كلمة من هنا أو من هناك، يحاول أن يفترض هوية الشخص الذى من المفترض أن يكونه، هناك طبيب يشرح لهم حالته وكأنه غير موجود، أو ربما بالفعل أنا غير موجود. هكذا قال لنفسه بغضب.
قال الطبيب بأن عليهم بذل مجهودات معه ليحاول أن يتذكر الأحداث الجارية، وأن ما يمر به هو حالة شبيهة بالألزهايمر، كونه يتذكر الماضى جيدًا، وما بين كل حدث وحدث سيخبو ضوء مصباح ما خلف مخه. وفى غصون شهرين أو ثلاثة ربما يتذكر الحاضر المفقود بالنسبة له.
لم يصدقه عبد الحميد، لكنه أغلق عينيه، وقد فهم أخيرًا سر ظلامه القاتم، وبروية أختار أن يعيش كما لو كانت هناك حياة مستقبلية تنتظره...
"لو تسمح، اسم الشارع هنا إيه، أنا فاكره بس مش تايه من بالي".
Content created and supplied by: Nisreenekhalil (via Opera News )
تعليقات