"سيدي..أنا لا أعترض على إعدام سليمان، أنا فقط أطالب بمزيد من الإنصاف..كلنا يرى العالم من زاويته هو، حتى المجرمون يرون فعلتهم بشكل آخر لا يراه سواهم..هم يرون ما لا نراه نحن..كل ما أريده هو أن نعرف ما يراه هؤلاء المجرمون حتى لا نصنع سليمان آخر".
بهذه الكلمات كان رد محامي الدفاع عن القاتل "سليمان" على القاضي، عندما حكم الأخير على سليمان بالإعدام.
بدأت القضية عندما استيقظ أهالي القرية على خبر مقتل "هارون" على يد "سليمان"..كان الخبر كارثة، فالقرية لم تكن لتعتاد ذلك النوع من الجريمة.
و كان المدهش في الأمر، أن تحريات الشرطة قد أفادت أن سبب الجريمة، كان اختلاف الإثنان على مبلغ 20 جنيه..وانهال كل أهالي القرية على سليمان باللعنات، وطالبوا بإعدامه.
وكان المحقق الذي تولى التحقيق في القضية في حالة ذهول، وكان السؤال الذي لطالما ألح على ذهنه هو:
هل 20 جنيهاً مبلغ يستحق جريمة قتل وأن يضع سليمان رقبته داخل حبل المشنقة؟!
كان الأمر أبعد ما يكون عن المنطق، ولكن هذا ما أكدته التحريات وأكدته أقوال "سليمان" نفسه..فقد اعترف سليمان بالجريمة، وليس ذلك فحسب، بل أنه لم يندم حتى على فعلته..وقال للمحقق أثناء اعترافه:
"لو عاد هارون للحياة، فسوف أقتله مرة أخرى..ولو كان باستطاعتي أن أقتله ألف مره لفعلت".
لم يجد المحقق أمامه سوى أن يتعامل مع القضية كما ينص القانون..وقام بإحالة أوراق القضية رسمياً إلى قاضي الجنايات.
رفض سليمان اللجوء إلى أي محام للدفاع عنه، على الرغم من أنه كان مقتدر مادياً، وكان يستطيع أن يلجأ إلى أفضل محام في القرية..وكان رفضه هذا محط ذهول للجميع.
انتدبت المحكمة محام وكلفته بالدفاع عن القاتل كما ينص القانون.
و جاء يوم النطق بالحكم..كانت القضية بشعة والسبب تافه..جريمة قتل من أجل 20 جنيها.
كانت نبرة صوت القاضي في منتهى القسوة والغلظة وهو ينطق بحكم الإعدام شنقاً على سليمان..كان من الواضح أنه تمنى لو أنه هو من أعدمه بنفسه.
حينها وقف محامي الدفاع عن القاتل أمام القاضي، وقال:
سيدي..لقد كان حكمك على سليمان قاس جداً..أنا لا أحتج على إعدامه، ولكن نبرتك و قسوتك الواضحة جعلت منك طرفاً غير محايد في القضية.
رد القاضي: ما هذا الهراء الذي تقول..هل تعي ما تقوله؟!
رد الدفاع: بلى، أنا أعي تماماً كل ما أقول، وأكرر لم يكن حكمك نابع من نص القانون، وإنما كان نابعا من داخلك أنت..لقد دفعك غيظك من تفاهة سبب الجريمة إلى الأمر بإنهاء حياة شخص..ودعني أسألك أنت: ماذا تعرف عن تلك الجريمة سوى أن سبب القتل كان الخلاف على 20 جنيه؟
رد القاضي: لقد تعديت حدودك أيها المحامي، وعليك التوقف عن تلك المهاترات وإلا أمرت بحبسك فوراً.
رد الدفاع: أنا متحمل نتيجة كل ما أقول، و على استعداد تام للحبس، ولكن قبل أي شيء أريد الإجابة على سؤالي الذي وجهته إليك..بل وأوجهه لكل من في تلك القاعة.
القاضي "و قد احمر وجهه من الغضب": أي سؤال أيها المخبول؟!
الدفاع: ماذا تعرف عن تلك القضية سوى أن سبب القتل كان الخلاف على 20 جنيه؟!..وسؤالي لجميع من في القاعة
القاضي "و قد بدأ يفقد أعصابه": لقد اعترف سليمان بالجريمة، ولم يظهر حتى ندمه أمام محقق النيابة، وقال بكل بجاحة..لو عاد هارون للحياة لقتلته مرة أخرى، وأنه لو كان باستطاعته أن يقتله ألف مرة لفعل..ألا يكفي هذا من وجهة نظرك لإعدامه؟!
رد الدفاع: سيدي القاضي، سيداتي وسادتي الحاضرون في القاعة..أنا لا أعترض على إعدام سليمان، بل أنا مؤيد تماماً للحكم..ولو كنت أريد أن ينجو القاتل بفعلته لأصبحت شريكا له في الجريمة..ولكن كل ما أريده فقط هو مزيد من الإنصاف.
و أدار الدفاع ظهره للقاضي موجها كلامه للحاضرون في القاعة، ورفع صوته قائلاً:
"من منكم يعرف عن تلك الجريمة سوى أنها حدثت لسبب تافه؟..الإجابة هي: لا أحد..لأنه ببساطة لم يعش أحدكم ما عاشه سليمان قبل أن يقوم بجريمته، وهو يعلم تماماً أنه بذلك يضع رقبته داخل حبل المشنقة..لم يشعر أحدكم بذلك الشعور الذي شعر به سليمان، والذي أعماه عن كل عواقب جريمته.
إذا كنتم بحثتم عن الحقيقة نفسها، لوجدتم أن القتيل لطالما أهان سليمان، وتملص من سداد ال20 جنيه..بل وزاد في إهانته بتجاهله له.
و لطالما أعلن هارون على الملأ ضعف سليمان من أخذ حقه منه، وأن سليمان أجبن من أن يقوم بأي فعل من شأنه الوقوف أمام بلطجته.
استطرد المحامي موجها كلامه للحاضرين في القاعة، قائلاً:
من منكم يستطيع أن يتحمل ذلك الشعور المهين الذي عاشه سليمان؟!..من منكم فكر في تلك التفاصيل عندما حكمتم عليه بالإعدام قبل أن يحكم عليه القاضي؟!
وأكمل بصوت مرتفع، قائلاً: أنتم لم تبحثوا عن الحقيقة من أجل العدالة..لم تبحثوا عن الحقيقة ذاتها..فقط كنتم تبحثون عن الحقيقة التي تؤيد رغبتكم في الإنتقام، وإظهار سليمان بمظهر الشيطان، لأن هذا يشعركم من داخلكم بأنكم أفضل.
"ساد الصمت في القاعة و لم يجب أحد"..وهنا استدار الدفاع موجها كلامه للقاضي، قائلاً في نبرة صوت هادئة:
سيدي..اؤيد تماماً حكم الإعدام في حق القاتل..بل وفي حق أي مجرم أيضاً..ولكن علينا أن ندرك أننا أحياناً من نصنع المجرمين، جميعنا ينظر للأمر من زاويته هو، وكلنا قضاة مادمنا لم نكن نحن المجرمون.
وحتى المجرمون يرون و يشعرون بأشياء لا يراها سواهم..وكان علينا قبل الحكم على سليمان بالإعدام، أن نعرف ما رآه قبل أن يقتل هارون..بل وأن نشعر به أيضاً..حتى لا نصنع ألبرتو آخر.
كان سليمان ضحية لهارون بنفس القدر الذي كان هارون به ضحية لسليمان..ولكننا لن نعترف بذلك، والسبب واضح وهو أن سبب الجريمة 20 جنيه..بينما كان الأمر بالنسبة لسليمان أكبر من كونه حفنة جنيهات.
ساد الصمت القاعة..حتى أن القاضي لم يقل أي شيء..و هنا استدار الدفاع موجها كلامه للحاضرين في القاعة، فاتحا ذراعيه، وقال بصوت عالٍ:
لقد أعدمتم القاتل قبل أن تعدمه المحكمة..أعدموا سليمان، ولكن اعلموا أنكم إن لم توقفوا أسباب الجرائم الحقيقية، فسوف تصنعون ألف سليمان آخر.
Content created and supplied by: shady9898 (via Opera News )
تعليقات