لايوجد أحد من رجال القانون في مصر لا يعرف اسم "عبد الرزاق السنهوري"، فالرجل حقق ما لم يحققه أحد من قبله ولا بعده، ووصل إلي درجات يكاد يكون من المستحيل ادراكها، فنحن لا نتحدث عن مجرد قاضي فترات في حياته، واستاذا جامعيا فترات أخرى.
بل لا نتحدث فقط عن رجل وضع مؤلفات لا تزال حتى يومنا هذا المرجع المعين لكل قاضي ومحامي في مجال القانون المدني، بل عن واضع دساتير وقوانين دول عربية كالكويت وليبيا والعراق والسودان والإمارات، ووضع مشروع القانون المدني المصري الضخم الذي لا يزال يعمل به حتى اليوم.
السنهوري كذلك هو مؤسس مجلس الدولة المصري أيضا، قضائنا الاداري الشامخ الذي وضع فلسفته حين قال أنه صديق الإدارة يرشدها حين تخطئ، فكان حصنا للحقوق والحريات، وبعدله ارشد الحكومة طويلا من الدهر.
وكيلا للنائب العام:
في العام ١٩١٧، خطي الشاب عبد الرزاق السنهوري أول خطواته في حياته القضائية عندما تم تعيينه معاونا للنائب العام "درجة وظيفية تؤهل صاحبها ليكون وكيلا للنائب العام خلال عامين".
وكشاب في الثانية والعشرين، طموح، قارئ، في نفسه اعجاب لم يخفيه هو بنفسه. لم يقنع الشاب بمهمة طلب التأييد أو التشديد أو الالغاء للقضايا التي ستعرض علي محكمة "الجنح المستأنفة"، وهي المحكمة التي تنظر أحكام محكمة الجنح الجزئية فتؤيدها أو تعدلها أو تلغيها، فقرر أن يظهر علمه ودرايته بشكل خاص جدا.
في المحكمة:
يحكي الدكتور المستشار
في مذكراته المواقف الأولى فى مهنة النيابة العامة، والتى ترددت بين الفشل و النجاح، حيث يقول :-
((و الآن أورد بعض ذكرياتى فى مستهل دخولى ميدان الحياة ، من فشل أو نجاح ، كنت معاون نيابة فى مدينة المنصورة سنة (١٩١٧) ، و عهد إلىّ للمرة الأولى بالمرافعة أمام محكمة الجنح المستأنفة، و قد قيل لى وقت ذلك: إن مهمتى لا تتجاوز أن أطلب التأييد أو التشديد أو الإلغاء فى القضايا التى تُعرض على المحكمة.
و لكنى –و كنت شاباً فى الثانية و العشرين– لم أقتنع بهذه المهمة المتواضعة، فاخترت قضية إتسع فيها المجال لبحث فقهى، و إنقسمت فيه الآراء بين مذهبين أحدهما فرنسى و الآخر بلجيكى.
وقمت أترافع، فسردت للمحكمة ما قاله أنصار كل من المذهبين، فى شئ من إرتباك من كان حديث عهد بالمدرسة، و نظر إلىّ رئيس المحكمة –و كان مشهوراً بالمرح – فى شئ من الدهشة، إذ لم يتعود مثل هذه المرافعة الفقهية.
ثم نظر إلى المتهم و كان فلاحاً ساذجاً ، و سأله: هل تختار النظرية الفرنسية، أو النظرية البلجيكية ؟!.
فأغرق الحاضرون فى الضحك و أحسست بالعرق بارداً من شدة الخجل.
لقد اعطي القاضي درسا للسنهوري بأن ينزل إلي واقعه، وحتى أن كان عالما فليوضح علمه بلا فلسفة ولا استعراض، وحتى إن اراد أن يبدي رأيه للمحكمة بشكل فقهي، فلا داعي لمرافعة استعراضية فقهية، بل يحدد هو قبل الجلسة الرأي الذي اعتنقه كممثل النيابة العامة. بعيدا عن حب ظهور الشباب، وان انضباط التحقيق وسلامة الرأي أهم بمراحل من مرافعة فقهية قد تخرج بالقضية عن محتواها، ومن المؤكد أن السنهوري تعلم الدرس، فأصبح معلم الأجيال.
---المصادر:
*اليوم السابع:
https://www.youm7.com/4272115
* عبد الرزاق السنهوري، القيود التعاقدية علي الحرية الفردية للعمل في القضاء الانجليزي، ترجمة: دكتور كمال جاد ﷲ، تقديم أستاذ دكتور سمير تناغو، مركز نهوض للدراسات والنشر، سلسلة الدراسات القانونية، صفحتي ١٨ و ١٩.
Content created and supplied by: محمدعلام14 (via Opera News )
تعليقات