كتب : معاوية الذهبي .
"مُلئت حياتي بالمخاطر، كان من المفترض أن أفقد فيها دما كثيراً، لكن بما أنني لم أنزف إلا قليلاً، طلبت من شخص أن يكتب كلام الله بدمي امتنانا"، هكذا تحدث رئيس العراق الراحل صدام حسين عن مصحف خُطت أياته بدم ليست أي دماء، فهذا الرجل الذي أراد نصف العالم رأسه، والنصف الآخر كان على استعداد أن يفديه بدمه، قد أنفق سبعة وعشرين لتراً من دمائه لُيكتب أول مصحف بالعالم بريشة خطاط عراقي اعتكف عامين، ليخط القرآن كاملاً بدم صدام حسين .
مصحف احتفظ به صدام حسين حتى جاء مَن استباح دمه وعلَّقه مشنوقاً بعد غزو العراق، فبات مصحف الدم خلف أبواب مغلقة، يتم التعامل معه على أنه أكثر وثائق الأرض سرية وأشهر نسخ القرآن الكريم في العهد المعاصر، لكونه الشاهد الوحيد على آخر ما تبقى من جسد صدام، موزعة على خمسمئة وست صفحات، وثلاثمئة وستة وثلاثين ألف كلمة، حتى صارت تلك هي أكثر نسخ القرآن إثارة للجدل .
نذر عدي .
في صباح الثاني عشر من ديسمبر عام 1996، تمر سيارة بورش فاخرة بأحد أحياء بغداد الراقية، الزاجاج المعتم يحجب وجه الشاب المهم الذي يجلس بداخلها، لكن مسلحون معارضون لوالد الشاب المدلل كانوا يعرفون أن عدي، الابن الأكبر لصدام حسين، يجلس بداخلها، فانهمرت رصاصات بندقيتين آليتين على السيارة لتضع عدي في حالة حرجة بين الحياة والموت بمستشفى ابن سينا ببغداد .
كان الأب الرئيس بقضي أغلب وقته بجانب سرير ولده ينتظر لطف الله به، حتى راودت صدام فكرة كتابة القرآن الكريم كاملاً بدمه، كان ذلك بمثابة نذر منه وفداءاً لنجاة ابنه الأكبر من الموت، فانتفض صدام وأمر مرافقيه باستدعاء الخطاط العراقي عباس شاكر الجودي، الذي لبى نداء الرئيس على عجل ليفاجأ بطلب غير اعتيادي .
كانت عين صدام متشبثة بعين الخطاط وهو يقول له "خُط القرآن كاملاً بدمي كحبر لأياته، سوف يعطونك أول قارورة من دمي لتبدأ الآن"، وعلى الفور تم تشكيل لجنة خبراء لمتابعة كتابة القرآن بدم الرئيس، ليس فقط للتأكد من دقة وصحة رسم الآيات، وإنما للتأكد من أن الدم سيقاوم مرور الزمن، ما دفع الخطاط العراقي لخلط دم صدام بمركب يمنعه من التجلط .
بداية العمل .
وبعد نجاح تجربة كتابة أول صفحة من المصحف بدم صدام، بدأت تتوالى قوارير دم صدام إلى حيث اعتكف الخطاط، لينجز العمل الموكل إلية بنحو سبعة وعشرين لتراً من دماء صدام بعد عامين، قضاهما يخط الآيات ليلاً نهاراً ، ما كاد يذهب ببصره على حد تعبيره، حتى جواز السفر كان ممنوعاً على الخطاط الجودي خشية أن يهرب بدماء الرئيس خارج البلاد، كما أن زوجة عباس كانت تعيش رعباً كل يوم عندما تشاهد دماء الرئيس بثلاجة مطبخها، إلا أن المكافأة السخية من صدام جعلت الخطاط وزوجته يرضيان بالعمل عامين، عندما قبض مبلغ ثلاثة آلاف دولار حينذاك، وقد كان راتبه لا يتعدى ثلاثين دولاراً، ليتسلم صدام مصحف الدم عام 1998 إلا أنه لم يعلن عنه إلا في احتفال رسمي في سبتمبر من عام 2000 ليتبين أنه يتكون من 605 صفحات تحتوي كامل القرآن الكريم، بواقع 114 سورة ونحو 336 ألف كلمة خُطت بما يتراوح بين 24 و27 لتراً من دماء صدام حسين .
وتم عرض المصحف في مبنى رخامي سداسي الأضلاع على بحيرة اصطناعية في مجمع جامع أم المعارك داخل المئذنة، وكان لا يُسمح بمشاهدته إلا للزوار المدعوين لأن المبنى كان عادة مغلق ولا يؤذن لأحد بالدخول إليه .
محاولات لسرقة المصحف .
اجتاحت العراق أعمال سلب ونهب وعنف فور سقوط نظام صدام حسين عقب الغزو الأمريكي عام 2003، كنوز وأموال ومخطوطات وآثار قد نُهبت خلال أيام، وتصدر مصحف دم صدام المخطوطات الأكثر بحثاً من قِبل السارقين، لكن محاولاتهم المتعددة قد باءت بالفشل ولم يتمكنوا من الوصول إليه، حيث أحبط حراس ورجال دين محاولات سرقته رغم إيمان كثير منهم بحرمانية كتابة المصحف بالدم .
وقد قال أحد أبرز شيوخ الوقف السُني أحمد السمرائي "رغم إدراكي لحرمانية هذا العمل ولكن هذا لم يمنعني من الاحتفاظ به"، حتى سرت شائعة بين العامة أن المصحف محمي من الملائكة، قبل أن تضع الأوقاف السنية حداً لمحاولات السرقة بالتحفظ على المصحف في قبو الأرشيف الملحق أم القرى ببغداد، حيث تم إغلاقه بقفل ضخم وتسليم نسخة من مفتاح القبو لثلاثة جهات، الأولى مع شيخ المسجد، والثانية مع مسؤول شرطة المدينة ، والثالثة مع جهة سرية .
أصبح الإطلاع على هذا المصحف أمراً مستحيلاً، مع تصنيفه كوثيقة شديدة السرية من قِبل السلطات العراقية الحالية، التي تخبطت في التعامل مع هذا المصحف، فرغم أنه يعبر عن فترة تاريخية مهمة من تاريخ العراق، ويحمل الأثر الأخير من جسد أكثر رؤساء العالم إثارة للجدل بالعصر الحديث، إلا أن الحكومة العراقية بعد الاحتلال، وفي عام 2005 تحديداً، كانت تعلم أن هذا المصحف سيشحذ همم أنصار صدام ما يُقود سعيها لاجتثاث كل ما يمت لنظام البعث في العراق بصلة .
بين الدين والعلم .
لم يتوقف الجدل الديني منذ كتابة مصحف صدام بالدم، حول ما إذا كانت كتابة القرآن بالدم حرام أم مكروه فقط أم أن لا ضير فيها، فمع انتشار خبر كتابة المصحف بالدماء أواخر التسعينات سارعت صحف عربية لنقل أراء شيوخ ورموز إسلامية بعضها استنكر الفعل، واعتبر كتابة القرآن بالدم حرام وجريمة اعتداء على الدين، فيما ذهبت أراء شيوخ آخرين إلى أنه مكروه أو ممنوع وربما لا ضير فيها .
الجدل حول مصحف دم صدام لم يتوقف حول الحرام والحلال، بل تعداه إلى التشكيك بأن تلك الدماء كانت حقاً من دماء صدام، حين أعلنت مراكز الدم الأمريكية صعوبة تصديق الإدعاء بأن صدام تبرع بسبعة وعشرين لتراً من دمه في فترة عامين فقط، في ظل حقيقة علمية تقول ان مقدار التبرع بالدم المسموح به هو 2 أو 3 لترات على مدار عام واحد، ما يعني أنه كان على صدام أن يستغرق نحو 9 سنوات للتبرع بكل هذا الدم .
شهادات حول المصحف .
رغم قلة عدد الذين تمكنوا من رؤية المصحف، إلا أن كل شخص نظر إليه كان يعبر عن دهشته من تحفة فنية تأسر القلوب، فالمصحف بحسب الصحفي الاسترالي أول ماجوف "يبلغ ارتفاع حروف الدم حوالي سنتيمترين والحروف الزخرفية العريضة مبهرة، زرقاء وحمراء وفاتحة، بُقع وردية وحمراء والدوامات البارزة باللون الأسود".
أما مارتن تشولوف من صحيفة الجارديان فيصفه بأنه" كتاب متقن الصُنع من شأنه أن يأخذ مكانه في أي معرض فني لولا حقيقة أنه كُتب بالدم"، كما قدر خبراء مخطوطات نادرة قيمة مصحف الدم بملايين الدولارات، وأنه قد يُباع بمبلغ لم تصل إليه لوحات أشهر الفنانين العالميين .
المصادر :
https://www.youtube.com/watch?v=QXugMCLTne8
https://ar.wikipedia.org/wiki/مصحف_صدام
https://www.bbc.com/arabic/middleeast/2010/12/101221_quran_saddam
https://arabic.sputniknews.com/arab_world/201902111038946896-دم-صدام-حسين-العراق/
https://www.annahar.com/arabic/article/956416-مصحف-صدام-حسين-الذي-كتب-ب27-لترا-من-دمائه
Content created and supplied by: Moawiaeldahaby (via Opera News )
تعليقات